الخُبـــزُ عِنـــدَ النّجَـــار!
خولة مرتضوي- كاتبة وباحثة أكاديمية
قارئي العزيز، صدقنِي الأيّامُ لا تُخبئُ أحدًا، أكتُب ذلك وفِيّ شِبهُ غصَّة عالقة بالوِجدان، تلك الغصَّة التي تتشكَّلُ كُلما وجدتُ شخصًا لا يُريدُ أن يفقَهَ شيئًا ويجحَدُ بالحَق أيَما جحُود ويُجاهِرُ بهِ، فيسُنُّ قوانين خاطئة وسيئة لم يأتِ بها العِلم ولم يُخبرنا بها حتّى آباؤنا الأولون، يفعَل ذلِكَ بكُلِّ كِبَر بسبب مكانتِهِ الوظيفية الرفيعَة، ويخلُق لنمَط غير صحِّي نهائيًا في بيئة العمل، بل ويُغَيُّر تاريخًا بأكمله، فالحماقة قد تُوصِلُهُ إلى حَدّ ذلك بسبب تجبُرِهِ على الحَقّ واختلاقِهِ لحَقٍ باطِل وفارِغ لن يُلزِم نفسَهُ بِهِ فقط بل فيلَق من يعمَل في بيئتِهِ ومَن يتعامَلُ معها من قريبٍ أو بعيد.
إنَّ تُراثُنا القطري الجميل يزخَرُ بالعديد من الأمثالِ والحِكَم الحياتِيَّة العميقَة، ومنها: «عَط الخُبز للخَبَّاز» أي أولِي الأمر لأهل الاختصاص والمَعرِفَة والدِرايّة، لكِنَّ اليوم نجَدُ البعض قد أعطَى الخُبزَ للنجار، نجارٌ يأبَى أن يفهَم ويتعرَّفَ على مهنَةِ الخَبز، نجارٌ يُريدُ من منجَرَتِهِ أن تُنتِجَ خُبزًا صالِحًا للاستخدامِ البشري، فوا أسَفِي على كُلِّ من اكتَسَبَ صِيتًا ومكانَةً على لا شَيء. الأيَّامُ لا تُخَبِّئ أحدًا، المواقِف تُجبِرُنا على اختِبار صلاحِيَّة أيٍ مِنّا لتحَمُّل وِزر القرارِ والمسؤوليَّة، صلاحِيَّة تامة امتثالًا لأمانَةِ العمَل التي حثّنا عليها الدين والوطنُ والعقلُ السليم، رَبُّ العمَل عليهِ أن يَعِي أن الجامعات والمعاهِد والدورات والكُتُب والمواقِع التي تزخَرُ بالإرث الإنساني من المعرفة تُقَدِّم فوائِد حقيقية ومناهج أساسية وآليات مدروسة لتحقيق أهداف عملية واقعية على أرض الميدان وبالشكلِ السليم، عليه كذلك أن يعِي أنَّ الخبط عشوائيَّة والخوف من تنفيذ الصحيح بحُجَّة أن قومِي ممَن هُم أعلى مِنِّ لا يفقهون عليه أن يُقابَلَ بتفعِيل الإجراء الصحيح وتفهيم كافَة الأطراف بِه، فلا يجب أن يكون هُناك قوَّة أعلى من قُوَّة العِلم ولا يجِب أبدًا أن تُطمَسَ عينُ الحَق بسبب عُمي أذهان البعض وتجبُّر البعض وخوفِ البعض الآخر!.
قارئي العزيز، إنَّهُ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها يا رسول الله قال إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، ليسَ علينا يا صديقي أن نخشَى توظِيف من لا خِبرةَ له، فإن كانَ جادًا سيُشَكِّل عندَهُ خبرةً مهنية ممتازة في أجَلٍ قصير، مُستفِيدًا من تجارُب الآخرين ومُمارِسًا حقيقيًا يُحَوِّلُ تجارُب الخطأ إلى صواب، ويُحَوِّلُ تجارُب الصواب إلى جادَة تنبُضُ بالإبداع والترَقِّي، كما أنَّهُ ليس علينا أن نقلَق كثيرًا من جدوى توظيف من لم يدرُس التخصص الدقيق المُطابِق للوظيفية الشاغِرة؛ ذلِكَ إن كانت لديهِ القابليَّة الحقيقيَّة للتعلُّم والتفَقُه والتنافُس في سُوق العمَل الشرِسَة. إنَّ الخوف، كُلُّ الخَوف من ذاكَ الذي يأتِيكَ ليَسُنَّ سُننًا غريبَة تُنافِي العقلَ والمنطِق، فقَط لرغبته في التفذلُك الوقِح، وفرض الأوامر التعسُفِيَّة، وإن أقنعتَهُ اقتَنَع لكِنَّهُ يُصِرُّ على رأيِه بسبب حُجَج واهِيَة لا صحَّة لها، تخوَّف من هذا كثيرًا يا صديقي فلا فائدة في عَقلٍ لم تعمَل بِهِ يَدُ المعرِفة، ولا فائِدَة مِن منصِبٍ لم يزِد صاحِبَةُ إلا غطرسَة وكِبرًا وجهلًا وضَلالًا.
يقولُ الكاتب عبدالسلام الشربينِي في مقالتِه «الواجِب» المنشورَة في مجلة الهداية الإسلامية: “إنَّ الإخلاص للواجب من شِيَم الأحرار، وهم أحرار؛ لأنهم يفعلون ما وجب فعله بإيحاء من ضمائرهم وعقولهم، وليسوا بعبيد يفعلون ما يؤمرون. فإن كنا لا ننتظر من عمل الواجب شيئًا إلا أن نصل بفعله إلى ما نبتغي من آمال ومطامع فكأننا نخدع أنفسنا بأنفسنا؛ لأن من يقوم بعمل الواجب مخلصًا في عمله لا ينتظر شيئًا بعد ذلك اللهم إلا تشجيع ضميره، وهذا هو الذي يسمى بالرجل الفاضل. وليست الفضيلة قولًا خلاَّبًا مزركشًا، ولكنها عمل وثبات وتضحية، تصحبها المعرفة والنزاهة والشرف. كثيرًا ما أجد الناس يرمون الحياة بالفساد والخبث، والحقيقة أنهم جدُّ خاطئين. ما فسدت الحياة إلا بفساد الإنسان، وما فسد الإنسان إلا لعدم قيامه بالواجب؛ فلو هذَّب عقله لعمل هذا العقل على تربية ضميره، ولو رقى ضميره لأجبره هذا الضمير على عمل الواجب، ولو عمل كل إنسان ما عليه من واجبات لاتزنت الحياة، ولما رأينا فيها هذا الفساد ولا هذا الخبث، ولا شيئًا من هذه العادات التي يمقتها الناس، مع العلم بأن الناس هم الذين أوجدوا هذه العادات. ومن الناس من لا يعرف من الواجب إلا ما يقوم به نحو نفسه؛ فهو يقوم بكل ما تتطلّبه شهواته، وما سيطرت عليه شهواته إلا لموت ضميره، وأيضًا من يقوم بكل ما تطلبه نفسه من لذات هذه الحياة قد تسوقه هذه النفس إلى الخطايا، وهذا الحب للنفس هو الذي يجعله يرتكب أكبر الآثام، ويعميه عن معرفة الصالح والطالح، ويجعله عاجزًا عن تقدير الأمور؛ ولذا تجد آخرته منقلبة؛ فبعد أن كان محبًّا لنفسه يصير عدوًّا لها، وقد لا يشعر بهذه العداوة. وهل هذا إلا من ضعف الإرادة، وموت الضمير، وفساد العقل؟ إن خير ما يقوم به الإنسان نحو نفسه هو أن يروِّضها على العمل، ويدربها على الشجاعة، وألا يجعلها ألعوبة تتقاذف بها الأهواء، وأن يضعها في المكان اللائق بها. وقد يجد ذوو النفوس الضعيفة صعوبة في تدريب أنفسهم على هذه الفضائل؛ ولكن ليعلموا أنه لا سعادة لهم بغيرها، فإن كان ظاهرها العذاب فباطنها الرحمة. وما السعادة إلا أن يعمل الإنسان ما عليه من واجبات، وأن يقوم بهذه الواجبات خير قيام”.
صَديقي، هَب أنَّ جاهِلًا عَنِيدًا يُجادِلُكَ فيما تُجزِمُ وتؤمِن؛ بفضلِ قُوَّة العِلم والعَقلِ والتَطبيق السَلِيم، فتُفنِعهُ بِشَقِّ الأنفُس فيقتنِع، وبسبب جهل وعُميِ منظُومتِه الأعلَى مِنهُ ومنك، ُيُقَرِّر أنَّ الجهلَ هو الحَلُّ الأسلَمُ، ويُعلِنُ أنَّ رأيَهُ الأوّل هُوَ الصَحيحُ الأصَحُ.
أيا صدِيقي، لم يمزحُوا أبدًا عندما قالُوا: “العُلمَاءُ أشقَى مِنَ الجُهلاَء”.