الوقف والمسؤولية المجتمعية
محمد إبراهيم خاطر
الإنفاق في الإسلام له مظاهر وأوجه متعددة، فمنه ما هو آني لمواجهة الحالات الطارئة في المجتمع وسد الحاجات التي لا تحتمل التأخير كالصدقات والزكوات، وهناك إنفاق طويل الأجل يتمثل في الصدقات الجارية وفي الوقف حيث يبقى الأصل وتكون الصدقة من ريع هذا الأصل، والوقف مصدر متجدد للنفع ومصدر متجدد للحسنات، فالوقف يلبي الاحتياجات المستديمة للمجتمع كالمرافق الصحية والتعليمية والبحثية وغيرها.
والوقف هو:”حبس الأصل وتسبيل الثمرة” أي الاحتفاظ بالأصل وإنفاق ثمرته في سبيل الله عز وجل وفي طرق الخير المختلفة.
والوقف يتميز بأمرين عظيمين وهما:
أولًا: النفع المستمر في الدنيا، وهذا الاستمرار يلبي الحاجات الطارئة للأفراد ويلبي احتياجات المجتمع على المدى البعيد.
ثانيًا: الثواب الجزيل الذي يحققه الوقف لصاحبه أثناء حياته وبعد موته، فالوقف مصدر متجدد للحسنات.
والوقف سنة ثابتة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه السنة لها خيرها في الدنيا وثوابها الجزيل في الآخرة، وما أحوج المسلمين اليوم إلى إحياء هذه السنة وإلى جعل الوقف عادة وثقافة عند الصغار والكبار.
والوقف اليوم لا يحتاج إلى مال كثير، فيمكن لأي شخص وبدراهم معدودة أن ُيسهم في أي نوع من أنواع الوقف التي تُصرف عوائدها على المشروعات الخيرية والتنموية.
وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على الإنفاق في وجه الخير المختلفة يقول الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}. سورة فاطر: 29.
ووردت الكثير من الآيات التي تحث على البر والإنفاق وسد حاجات الفئات الضعيفة في المجتمع
ونجد في القرآن الكريم الدعوة إلى الإحسان بكل أشكاله وصوره ومنها الإحسان إلى الآخرين ونجد الأمر بالتعاون على البر والتقوى وهو أمر عام يغطي جميع التعاملات التي تتم بين الناس في حياتهم اليومية يقول الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. سورة المائدة: 2.
وورد في السنة النبوية المطهرة الكثير من الأحاديث التي تدعو إلى الإنفاق وتحث عل أنواع معينة من الصدقات ومنها الصدقة الجارية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:« إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». صحيح مسلم: 4177.
والأوقاف في الدولة الإسلامية تميزت بكثرة عددها وضخامتها وتعدد مجالاتها وتنوع أنشطتها، وقد اندثر منها الكثير وبقي منها الكثير أيضًا، وفي دليل واضح على أن مفهوم الوقف كان راسخًا في قلوب المسلمين وعقولهم لأنه جزء من عقيدتهم التي تدعوهم إلى محبة الآخرين والإحسان إليهم.
الوقف بخصائصه ومميزاته يمثل المرحلة الثالثة التي تتم دور الصدقات والزكاة في تنمية المجتمع، وذلك من خلال توفير التمويل اللازم للمشروعات التنموية التي تحقق الرخاء للمجتمع.
والمتأمل في القواعد والأصول التي قامت عليها الحضارة الغربية يلاحظ أنها في مجملها قواعد وأصول إسلامية، وقد يبدو ذلك غريبًا ولكنه حقيقة لا مراء فيها، فالغرب نهض بأدوات وأفكار إسلامية، ولكنه فصلها عن مصدرها الرباني وأضفى عليها الصبغة المادية التي تجعل من المنفعة الهدف والغاية وتفصلها تمامًا عن الدين وعن القيم والأخلاق.
ومن الأمثلة على ذلك الاهتمام بالعلم، والاهتمام باتقان العمل والإحسان والجودة في أداء أي عمل، والاهتمام بالعمل التطوعي، والاهتمام بالضمان الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، والإنفاق على الأعمال الخيرية، والاهتمام بالوقف وبصفة خاصة الوقف على الجامعات ومراكز البحوث، وكلها كما نرى أمور أوجبها الإسلام ودعا إليها وحث عليها.
والإنفاق من أموال الوقف لمواجهة الحالات الطارئة التي يتعرض لها المجتمع أو على الاحتياجات اليومية الأخرى لا يتعارض مع الإنفاق على المشروعات الخيرية طويلة الأجل التي ينبغي أن يخصص لها الجزء الأكبر من أموال الوقف، وهذا الأمر لم يتحقق بعد، فأغلب المؤسسات الوقفية في الدول العربية والإسلامية تنفق الجزء الأكبر من أموال الوقف على معالجة مشكلة الفقر المزمنة التي لا تنتهي ولا يمكن القضاء عليها إلا بالتعليم والبحث العلمي وتوفير الرعاية الصحية.
وأفضل استثمار لأموال الوقف هو استثمارها في المشروعات طويلة الأجل مثل الإنفاق على التعليم والبحث العلمي والإنفاق على القطاع الصحي وغيرها من المجالات التي تتطلب تمويلًا دائمًا حتى لا تتعطل أو تتوقف عن القيام بدورها في النهوض بالمجتمع، وهو ما فطن إليه المسلمون الأوائل عندما اتجهوا إلى الوقف على المدارس والمكتبات والمستشفيات، ولذلك ينبغي علينا اليوم كأفراد ومؤسسات التركيز على الجانب التنموي للوقف، من أجل النهوض بالمجتمعات العربية والإسلامية، واستعادة الدور الحضاري لأمتنا.